كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد تقدم عن نقل أهل الكتاب عن يعقوب عليه السلام حين فارق خاله لابان أنه أطلق له ما يولد من غنمه بلقا ففعل نحو ما ذكر عن موسى عليه السلام فالله أعلم.
{فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملائه إنهم كانوا قوما فاسقين} تقدم أن موسى قضى أتم الأجلين وأكملهما وقد يؤخذ هذا من قوله: {فلما قضى موسى الأجل} وعن مجاهد أنه أكمل عشرا وعشرا بعدها وقوله: {وسار بأهله} أي من عند صهره ذاهبا فيما ذكره غير واحد من المفسرين وغيرهم أنه اشتاق إلى أهله فقصد زيارتهم ببلاد مصر في صورة مختف فلما سار بأهله ومعه ولدان منهم وغنم قد استفادها مدة مقامه قالوا واتفق ذلك في ليلة مظلمة برادة وتاهوا في طريقهم فلم يهتدوا إلى السلوك في الدرب المألوف وجعل يوري زناده فلا يوري شيئا واشتد الظلام والبرد فبينما هو كذلك إذ أبصر عن بعد نارا تأجج في جانب الطور وهو الجبل الغربي منه عن يمينه {فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا} وكأنه والله أعلم رآها دونهم لأن هذه النار هي نور في الحقيقة ولا يصلح رؤيتها لكل أحد {لعلي آتيكم منها بخبر} أي لعلي أستعلم من عندها عن الطريق {أو جذوة من النار لعلكم تصطلون} فدل على أنهم كانوا قد تاهوا عن الطريق في ليلة باردة ومظلمة لقوله في الآية الأخرى: {وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى} فدل على وجود الظلام وكونهم تاهوا عن الطريق وجمع الكل في سورة النمل في قوله: {إذ قال موسى لأهله إني آنست سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون} وقد أتاهم منها بخبر وأي خبر ووجد عندها هدى وأي هدى واقتبس منها نورا وأي نور قال الله تعالى: {فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين} وقال في النمل: {فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين} أي سبحان الله الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد {يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم} وقال في سورة طه: {فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى} قال غير واحد من المفسرين من السلف والخلف لما قصد موسى إلى تلك النار التي رآها فانتهى إليها وجدها تأجج في شجرة خضراء من العوسج وكل ما لتلك النار في اضطرام وكل ما لخضرة تلك الشجرة في ازدياد فوقف متعجبا وكانت تلك الشجرة في لحف جبل غربي منه عن يمينه كما قال تعالى: {وما كنت بجانب الغربي اذ قضينا الى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين} وكان موسى في واد اسمه طوى فكان موسى مستقبل القبلة وتلك الشجرة عن يمينه من ناحية الغرب فناداه ربه بالواد المقدس طوى فأمر أولا بخلع نعليه تعظيما وتكريما وتوقيرا لتلك البقعة المباركة ولاسيما في تلك الليلة المباركة.
وعند أهل الكتاب أنه وضع يده على وجهه من شدة ذلك النور مهابة له وخوفا على بصره ثم خاطبه تعالى كما يشاء قائلا له: {إني أنا الله رب العالمين}، {إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} أي أنا رب العالمين الذي لا إله إلا هو الذي لا تصلح العبادة وإقامة الصلاة إلا له ثم أخبره أن هذه الدنيا ليست بدار قرار وإنما الدار الباقية يوم القيامة التي لابد من كونها ووجودها لتجزى كل نفس بما تسعى أي من خير وشر وحضه وحثه على العمل لها ومجانبة من لا يؤمن بها ممن عصى مولاه واتبع هواه ثم قال له مخاطبا ومؤانسا ومبينا له أنه القادر على كل شيء الذي يقول للشيء كن فيكون {وما تلك بيمينك يا موسى} أي أما هذه عصاك التي نعرفها منذ صحبتها قال: {هي عصاي أتوكؤ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى} أي بل هذه عصاي التي أعرفها وأتحققها {قال القها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى} وهذا خارق عظيم وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه يقول للشيء كن فيكون وأنه الفعال بالاختيار.
وعند أهل الكتاب أنه سأل برهانا على صدقه عند من يكذبه من أهل مصر فقال له الرب عز وجل ما هذه التي في يدك قال عصاي قال ألقها إلى الأرض {فألقاها فإذا هي حية تسعى} فهرب موسى من قدامها فأمره الرب عز وجل أن يبسط يده ويأخذها بذنبها فلما استمكن منها ارتدت عصا في يده وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى: {وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب} أي قد صارت حية عظيمة لها ضخامة هائلة وأنياب تصك وهي مع ذلك في سرعة حركة الجان وهو ضرب من الحيات يقال الجان والجنان وهو لطيف ولكن سريع الاضطراب والحركة جدا فهذه جمعت الضخامة والسرعة الشديدة فلما عاينها موسى عليه السلام {ولى مدبرا} أي هاربا منها لأن طبيعته البشرية تقتضي ذلك ولم يعقب أي ولم يلتفت فناداه ربه قائلا له: {يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين} فلما رجع أمره الله تعالى أن يمسكها: {قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} فيقال إنه هابها شديدا فوضع يده في كم مدرعته ثم وضع يده في وسط فمها وعند أهل الكتاب بذنبها فلما استمكن منها إذا هي قد عادت كما كانت عصا ذات شعبتين فسبحان القدير العظيم رب المشرقين والمغربين ثم أمره تعال بإدخال يده في جيبه ثم أمره بنزعها فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضا من غير سوء أي من غير برص ولا بهق ولهذا قال: {اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب} قيل معناه إذا خفت فضع يدك على فؤادك يسكن جأشك وهذا وإن كان خاصما به إلا أن بركة الإيمان به حق بأن ينفع من استعمل ذلك على وجه الاقتداء بالأنبياء وقال في سورة النمل: {وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين} أي هاتان الآيتان وهما العصا واليد وهما البرهانان المشار إليهما في قوله: {فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملائه إنهم كانوا قوما فاسقين} ومع ذلك سبع آيات أخر فذلك تسع آيات بينات وهي المذكورة في آخر سورة سبحان حيث يقول تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء الأرب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا} وهي المبسوطة في سورة الأعراف في قوله: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين} كما سيأتي الكلام على ذلك في موضعه وهذه التسع آيات غير العشر الكلمات فإن التسع من كلمات الله القدرية والعشر من كلماته الشرعية وإنما نبهنا على هذا لأنه قد اشتبه أمرها على بعض الرواة فظن أن هذه هي هذه كما قررنا ذلك في تفسير آخر سورة بني إسرائيل.
والمقصود أن الله سبحانه لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون قال: {رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردأ يصدقني إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وكليمه موسى عليه السلام في جوابه لربه عز وجل حين أمره بالذهاب إلى عدوه الذي خرج من ديار مصر فرارا من سطوته وظلمه حين كان من أمره ما كان في قتل ذلك القبطي ولهذا قال: {رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون} أي اجعله معي معينا وردءا ووزيرا يساعدني ويعينني على أداء رسالتك إليهم فإنه أفصح مني لسانا وأبلغ بيانا قال الله تعالى مجيبا له إلى سؤاله: {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا} أي برهانا {فلا يصلون إليكما} أي فلا ينالون منكما مكروها بسبب قيامكما {بآياتنا} وقيل ببركة آياتنا {أنتما ومن اتبعكما الغالبون} وقال في سورة طه: {اذهب إلى فرعون إنه طغى قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي} قيل إنه أصابه في لسانه لثغة بسبب تلك الجمرة التي وضعها على لسانه التي كان فرعون أراد اختبار عقله حين أخذ بلحيته وهو صغير فهم بقتله فخافت عليه آسية وقالت إنه طفل فاختبره بوضع تمرة وجمرة بين يديه فهم بأخذ التمرة فصرف الملك يده إلى الجمرة فأخذها فوضعها على لسانه فأصابه لثغة بسببها فسأل زوال بعضها بمقدار ما يفهمون قوله ولم يسأل زوالها بالكلية.
قال الحسن البصري والرسل إنما يسألون بحسب الحاجة ولهذا بقيت في لسانه بقية ولهذا قال فرعون قبحه الله فيما زعم إنه يعيب به الكليم ولا يكاد يبين أي يفصح عن مراده ويعبر عما في ضميره وفؤاده ثم قال موسى عليه السلام: {واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا قال قد أوتيت سؤالك يا موسى} أي قد أجبناك إلى جميع ما سألت وأعطيناك الذي طلبت وهذا من وجاهته عند ربه عز وجل حين شفع أن يوحي الله إلى أخيه فأوحى إليه وهذا جاه عظيم قال الله تعالى: {وكان عند الله وجيها} وقال تعالى: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا} وقد سمعت أم المؤمنين عائشة رجلا يقول لأناس وهم سائرون طريق الحج أي أخ أمن على أخيه فسكت القوم فقالت عائشة لمن حول هودجها هو موسى بن عمران حين شفع في أخيه هارون فأوحى إليه قال الله تعالى: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا} قال تعالى في سورة الشعراء: {وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون الا يتقون قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا نبي إسرائيل قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين} تقدير الكلام فاتياه فقالا له ذلك وبلغاه ما أرسلا به من دعوته إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له وأن يفك أسارى بني إسرائيل من قبضته وقهره وسطوته وتركهم يعبدون ربهم حيث شاؤوا ويتفرغون لتوحيده ودعائه والتضرع لديه فتكبر فرعون في نفسه وعتا وطغى ونظر إلى موسى بعين الازدراء والتنقص قائلا له: {ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين} أي أما أنت الذي ربيناه في منزلنا وأحسنا إليه وأنعمنا عليه مدة من الدهر وهذا يدل على أن فرعون الذي بعث إليه هو الذي فر منه خلافا لما عند أهل الكتاب من أن فرعون الذي فر منه مات في مدة مقامه بمدين وأن الذي بعث إليه فرعون آخر وقوله: {وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين} أي وقتلت الرجل القبطي وفررت منا وجحدت نعمتنا {قال فعلتها إذا وأنا من الضالين} أي قبل أن يوحى إلى وينزل على {ففرت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين} ثم قال مجيبا لفرعون عما امتن به من التربية والاحسان إليه: {وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بني إسرائيل} أي وهذه النعمة التي ذكرت من أنك أحسنت إلى وأنا رجل واحد من بني إسرائيل تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم بكماله واستعبدتم في اعمالك وخدمك وأشغالك {قال فرعون وما رب العالمين قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون}.
يذكر تعالى ما كان بين فرعون وموسى من المقاولة والمحاجة والمناظرة وما أقامه الكليم على فرعون اللئيم من الحجة العقلية المعنوية ثم الحسية وذلك أن فرعون قبحه الله أظهر جحد الصانع تبارك وتعالى وزعم أنه الإله {فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى}، {وقال يا أيها الملأ ما علمت لكم من اله غيري} وهو في هذه المقالة معاند يعلم أنه عبد مربوب وأن الله هو الخالق البارئ المصور الإله الحق كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كانت عاقبة المفسدين} ولهذا قال لموسى عليه السلام على سبيل الإنكار لرسالته والإظهار أنه ما ثم رب ارسله وما رب العالمين لأنهما قالا له: {إنا رسول رب العالمين} فكانه يقول لهما ومن رب العالمين الذي تزعمان أنه أرسلكما وابتعثتكما فأجابه موسى قائلا: {رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين} يعني رب العالمين خالق هذه السموات والأرض المشاهدة وما بينهما من المخلوقات المتجددة من السحاب والرياح والمطر والنبات والحيوانات التي يسلم كل موقن انها لم تحدث بأنفسها ولا بدلها من موجد ومحدث وخالق وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين {قال} أي فرعون {لمن حوله} من أمرائه ومرازبته ووزرائه على سبيل التهكم والتنقص لما قرره موسى عليه السلام {ألا تسمعون} يعني كلامه هذا قال موسى مخاطبا له ولهم: {ربكم ورب آبائكم الأولين} أي هو الذي خلقكم والذين من قبلكم من الآباء والأجداد والقرون السالفة في الآباد فإن كل أحد يعلم أنه لم يخلق نفسه ولا أبوه ولا أمه ولم يحدث من غير محدث وإنما أوجده وخلقه رب العالمين وهذان المقامان هما المذكوران في قوله تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} ومع هذا كله لم يستفق فرعون من رقدته ولا نزع عن ضلالته بل استمر على طغيانه وعناده وكفرانه قال: {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما ان كنتم تعقلون} أي هو المسخر لهذه الكواكب الزاهرة المسير للأفلاك الدائرة خالق الظلام والضياء ورب الأرض والسماء رب الأولين والآخرين خالق الشمس والقمر والكواكب السائرة والثوابت الحائرة خالق الليل بظلامه والنهار بضيائه والكل تحت قهره وتسخيره وتسييره سائرون وفلك يسبحون يتعاقبون في سائر الأوقات ويدورون فهو تعالى الخالق المالك المتصرف في خلقه بما يشاء فلما قامت الحجج على فرعون وانقطعت شبهه ولم يبق له قول سوى العناد عدل إلى استعمال سلطانه وجاهه وسطوته {قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع بده فإذا هي بيضاء للناظرين} وهذان هما البرهانان اللذان أيده الله بهما وهما العصا واليد وذلك مقام أظهر فيه الخارق العظيم الذي بهر به العقول والأبصار حين ألقى عصاه {فإذا هي ثعبان مبين} أي عظيم الشكل بديع في الضخامة والهول والمنظر العظيم الفظيع الباهر حتى قيل إن فرعون لما شاهد ذلك وعاينه أخذه رهب شديد وخوف عظيم بحث أنه حصل له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة في يوم وكان قبل ذلك لا يتبرز في كل أربعين يوما إلا مرة واحدة فانعكس عليه الحال وهكذا لما أدخل موسى عليه السلام يده في جيبه واستخرجها أخرجها وهي كفلقة القمر تتلألأ نورا بهر الأبصار فإذا أعادها إلى جيبه رجعت إلى صفتها الأولى ومع هذا كله لم ينتفع فرعون لعنه الله بشيء من ذلك بل استمر على ما هو عليه وأظهر أن هذا كله سحر وأراد معارضته بالسحرة فأرسل يجمعهم من سائر مملكته ومن في رعيته وتحت قهره ودولته كما سيأتي بسطه وبيانه في موضعه من اظهار الله الحق المبين والحجة الباهرة القاطعة على فرعون وملائه وأهل دولته وملته ولله الحمد والمنه وقال تعالى في سورة طه: {فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} يقول تعالى مخاطبا لموسى فيما كلمه به ليلة أوحى إليه وأنعم بالنبوة عليه وكلمه منه إليه قد كنت مشاهدا لك وأنت في دار فرعون وأنت تحت كنفي وحفظي ولطفي ثم أخرجتك من أرض مصر إلى أرض مدين بمشيئتي وقدرتي وتدبيري فلبثت فيها سنين {ثم جئت على قدر} أي مني لذلك فوافق ذلك تقديري وتسييري {واصطنعتك لنفسي} أي اصطفيتك لنفسي برسالتي وبكلامي {اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري} يعني ولا تفترا في ذكري إذ قدمتما عليه ووفدتما إليه فإن ذلك عون لكما على مخاطبته ومجاوبته وإهداء النصيحة إليه وإقامة الحجة عليه وقد جاء في بعض الأحاديث يقول الله تعالى إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا} الآية ثم قال تعالى: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} وهذا من حلمه تعالى وكرمه ورأفته ورحمته بخلقه مع علمه بكفر فرعون وعتوه وتجبره وهو إذ ذاك أردى خلقه وقد بعث إليه صفوته من خلقه في ذلك الزمان ومع هذا يقول لهما ويأمرهما أن يدعواه إليه بالتي هي أحسن برفق ولين ويعاملاه معاملة من يرجو أن يتذكر أو يخشى كما قال لرسوله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} وقال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن الا الذين ظلموا منهم} الآية قال الحسن البصري: {فقولا له قولا لينا} أعذرا إليه قولا له إن لك ربا ولك معادا وإن بين يديك جنة ونارا وقال وهب بن منبه قولا له إني لي العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة قال يزيد الرقاشي عند هذه الآية يا من يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه {قالا ربنا إنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} وذلك أن فرعون كان جبارا عنيدا وشيطانا مريدا له سلطان في بلاد مصر طويل عريض وجاه وجنود وعساكر وسطوة فهاباه من حيث البشرية وخافا أن يسطو عليهما في بادئ الأمر فثبتهما تعالى وهو العلي الأعلى فقال: {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} كما قال في الآية الأخرى: {إنا معكم مستمعون فاتياه فقولا إنا رسولا ربك فارسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} يذكر تعالى أنه أمرهما أن يذهبا إلى فرعون فيدعواه إلى الله تعالى أن يعبده وحده لا شريك له وأن يرسل معهم بني إسرائيل ويطلقهم من أسره وقهره ولا يعذبهم قد جئناك بآية من ربك وهو البرهان العظيم في العصي واليد والسلام على من اتبع الهدى تقيد مفيد بليغ عظيم ثم تهدداه وتوعداه على التكذيب فقالا: {إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} أي كذب بالحق بقلبه وتولى عن العمل بقالبه.